فصل: باب: ما يجتنب المحرم من الطيب والثياب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما يجتنب المحرم من الطيب والثياب:

2571- الرجل المحرم ممنوعٌ عن لُبس الثوب المخيط، الذي يحيط بسبب الخياطة، إحاطةً مقصودة. وكذلك إذا كان الثوب مُحيطاً مسروداً، كالدرِع، ونحوِه، فلُبسه من المحظورات، في حق الرجل، فلا ينبغي أن يلبسَ قميصاً، ولا قَباءً، ولا مفرَّجاً، ولا سراويلَ ولا خُفاً، وقد مضى في ستر الرأس كلامٌ بالغ، وسنعيده في هذا الفصل، في غرض آخر.
ثم القول في الملابس يتعلق بأمرين:
أحدهما: الكلام فيما يُلبس.
والثاني: الكلام في كيفية اللُّبس، والمتبع فيما يُلبس اجتناب ما يحيط بالخياطة، أو لسبب آخر، والتوشحُ والالتفاقُ غيرُ ضائر، فالمتّزر ملتف بإزاره، والمرتدي متوشح بردائه، والقميص في نوعه مخيط، وكذلك السراويل والقَبَاءُ، والمُفرَّجات.
ولو ارتدى المحرم بقميص أو سراويلَ، فلا بأس عليه؛ فإن الكشف فيما عدا عضو الإحرام-وهو الرأس من الرجل، والوجه من المرأة- غيرُ واجبٍ في المتجرد، وإنما المطلوب من المحرم أن يخرج من عادته في جهة التستر، لا في أصله، وإذا توشح بقميصه، لم يكن على العادة في استعمال القميص، وكذلك إذا ارتدى به، أو اتزر، ولو التحف في اضطجاعه بجُبَّةٍ، فلا بأس، ولو لبس القَباءَ، ولم يُدخل يديه، في كمه، فالذي جاء به محظورٌ، وموجِبٌ للفدية، وإن لم يشدّ القَبَاء، ولم يُدخل يديه في الكمين؛ فإنه قد يُلَبس كذلك.
ولو ألقى على نفسه قباءً، أو فَرَجِيًّا، وهو مضطجعٌ، ففي ذلك فضل نظر: فإن أخذ من بدنه ما إذا قام عُدَّ لابساً، فهو محظور، موجِبٌ للفدية. وإن كان ما أخذه من بدنه على قدر ما يأخذ اللحاف، ولو قام، أو قعد، لم يستمسك عليه، إلا بمزيد أمرٍ، فليس ما جرى لُبساً محظوراً.
ولو ارتدى المحرم برداء، وعقد أحد طرفيه بالآخر، فلا بأس؛ فإن هذا مخالفٌ للتستر المعتاد، والعقد الذي جرى استيثاقٌ في التوشح، وهو بمثابة عقد الإزار، وكذلك لو عقد طرف ردائه بإزاره، فلا منع لما ذكرناه.
قال العراقيون: لو اتخذ إزاراً ذا حُجْزَة وجرّ فيها تِكة، والإزار لم يزايله اسمُه، فلا بأس، وليس هذا لُبسَ مخيطٍ، أو محيط، وإنما هو مزيد استيثاق من الشد.
2572- فإذا تمهد القولُ في الملبوس، وما يرعى في كيفية اللُّبس، المحظور، والمباح، فإنا نعقد بعد ذلك قولاً جامعاً فنقول: على المحرم أن يتوقى أصلَ الستر في عضوِ الإحرام، وعضو الإحرام في الرجل الرأس، وفي المرأة الوجهُ؛ فيجب على المرأة المحرمة أن ترعى في كشف وجهها، ما يرعاه الرجل في كشف رأسه. وقد نص الأئمة على أن المرأة لو أسدلت على وجهها ثوباً، متجافياً، عن وجهها، بأن تُخرج من رأسها شيئاً، وتسدُل منه ثوباً، فلا بأس بذلك. ولم تزل النسوة يعتدن هذا في المواسم. ولهن أن يستترن بالظُّلَل من غير نكير. وهذا ردٌّ ظاهرٌ على مالك رحمه الله، ومعتبرٌ في القاعدة المرعيّة في كشف عضو الإحرام.
فإذا ثبت أن المطلوب الكشف في عضو الإحرام، فإن جرى سترٌ بماءٍ، أو غيره، فالرجوع إلى دوام اسم الكشف.
وأصلُ الستر غيرُ مرعي فيما عدا عُضو الإحرام، وإنما حجر الشرع في هيئة مخصوصة، في اللُّبس، وقد يتعلق بملبوسٍ مخصوص، وقد وصفنا الملبوس، واللِّبسة المعتبرة في الحظر والإباحة.
2573- والنسوة لا حجر عليهن فيما يتعلق بالهيئة، والكيفية، في الستر، ولا عليهن لو لبسن القميص، والسراويلات، والخِفاف؛ فإن ذلك أستر لهن، ولا يُحمل استعمالُهن ذلك في غير الإحرام على الزينة، وإيثارِ هيئةٍ مخصوصة في الزي، وإنما يحمل على رعاية الستر.
وما ذكرناه في الرجال محمول على اختيار الزي، والهيئة.
ثم إحرامهن في وجوههن، لا في رؤوسهن، ولعل الشرع خصص ذلك بوجوههن؛ لأنها ليست عورةً منهن في الصلاة.
واختلف قول الشافعي في أن المرأة هل تلبس القفازين؟ ولعل الأظهرَ جواز اللُّبس؛ إذْ لا خلافَ أن اليدَ منهن لا تنزل منزلة الوجه. وللمرأة أن تستر يديها بكميها، ولست أدري لترديد القول في لُبس القفازين وجهاً، إلا ورود الخبر مطلقاً في نهي المحرم عن لبس القفازين.
ولو ألحق الملحِق اليدَ منها بالوجه؛ من جهة أن كفيها ليستا بعورةٍ في الصلاة، كالوجه، فلا جريان لهذا، مع جواز ستر الكفين بأطراف الأكمام. وحد الوجه منها مضبوط بما يجب غسله في الوضوء. وحدّ الرأس بيّن.
فرع:
2574- إذا اتخذ لردائه شرَجاً وعُرىً، وكان يربط الشرَج بالعُرى، ويحتوي الرداءَ بها على البدن، فقد ذكر العراقيون أن هذا محظور بمثابةِ الإحاطة التي تُحصلها الخياطة.
وكان شيخي يتردد في هذا. ولا شك أنه لو فرض على طرفٍ من الرداء، ولم ينتظم انتظاماً قريباً من الخياطة، فلا بأس به، والرجوع في ذلك إلى العَقْد والخياطة، فما حل محل العقد، فلا بأس به، وما ضاهى الخياطة، ففيه التردد، والظاهر المنع.
فرع:
2575- لو شق إزاره من ورائه، وجعل له ذيلين، وعقد طرفي كل ذيل بأحد الساقين ملفوفاً به. قال العراقيون: لا يجوز ذلك؛ فإنه في صورة سراويل.
وهذا فيه نظر إذا لم يكن خياطة، وشرَجٌ، وعُرى تضاهي الخياطة، واللف والعقد ما أراه مانعاً، وسبب الاحتمال فيما صوروه من الإزار مضاهاة السراويل، فهو كمضاهاة الشرَج للخياطة، واللفُّ على أي وجهٍ فرض على البدن غيرُ محظور إذا لم يكن خياطة أو إحاطة بسبب يضاهي الخياطة.
فصل من ذلك
2576- قد ذكرنا أن المحرم ممنوع عن لُبس الخف، والسراويل، فلو لم يجد إزاراً، وأمكنه فتقُ السراويل وردُّه إلى هيئة إزار، فليفعل. فإن كان لا يتأتى منه ذلك، بأن كان لا تتسق مفتوقة إزاراً سابغاً، أو لم يجد وقتاً يتسع لذلك كله، فله لبس السراويل، واعتمد الأئمة فيه الحديث الصحيح؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يجد إزاراً، فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين، فليقطع الخفين أسفلَ من الكعبين».
ثم تشوّف الأصحاب إلى طرفٍ من المعنى، في السراويلِ، فقالوا: لُبسه عند فقد الإزار تديّنٌ، لا ترخُّصٌ، وليس محمولاً على الزينة، والهيئة.
والأولى الاقتصار على اتباع الخبر؛ فإن هذا المعنى إنما كان يصح سليماً عن الاعتراض، لو حلَّ ما تحت سرة الرجل، محل بدن المرأة، على عموم الأحوال، حتى يجوز للرجل في عورته لُبس المخيط من غير حَجْرٍ، كما يجوز للمرأة ذلك في بدنها. وكذلك ما تحت الركبة ليس بعورة، ونحن لا نكلف المحرم أن يرد ساق السراويل، إلى حد الركبة، كما يقطع الخفّ أسفل من الكعبين؛ فالمتبع الخبر إذاً، ومعنى التعبد، والتديّن فيه نظر.
وفي عقد السراويل فوقَ السرة، إذا زاد على الاستيثاق في حق من لم يجد، إزاراً نظرٌ، و تدبّر. ويظهر عندي تكليف رد عقده إلى حدّ السرة.
2577- وأما لبس الخف، فالمحرم ممنوعٌ منه، إذا وجد نعلين، فإن لم يجدهما، فليقطع خُفيه أسفل من الكعبين. هكذا ورد الحديث.
أما النعل، فملبوسُ المحرمِ، وإن كان يحتوي شراكه على ظهر القدم، فلا منعَ فيما يسمى نعلاً، وإن عُرّض الشِّسع، والشراك. وقد تمس الحاجة إلى تعريضه في السير المتمادي.
وأما الشُّمُشْك وهو على صورة خف مقطوعٍ أسفل الكعبين، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنه لا يلبسه من يجد النعلين، وفي بعض التصانيف تجويز لُبسه، وتنزيله منزلة النعل، ووجْه هذا على بعده: أن ما يحتوي من الشُّمُشْك على ظهر القدم، ويحيط بالجوانب، فقد يظن أنه للاستمساك في القدم، لا لستر بعضٍ، إذ ليس البعض أولى برعاية الستر من البعض؛ فاحتمل أن يكون المحتوِي منه على ظهر القدم مشبّهاً بالشراك من النعل.
وأما الخف، فلا شك أنه يتخذ للستر، وهو محُيطٌ.
والظاهر من المذهب نقلاً اختصاصُ جواز لُبس الشّمُشْك بفقدان النعل.
وفيه معنىً يجب التنبه له، وهو أنه إن ظهر في السراويل معنى التعبد، والتحق الرجل حالة فقدان الإزار في محل السراويل، بالمرأة في بدنها، فهذا غيرُ متحقق في الشُّمُشْك، ثم لا فدية في لُبسه عند فقد النعل، ولم نحمل هذا على لُبسٍ تدعو إليه الحاجة. ومن لبس قميصاً لضرورة، افتدى.
فليتنبه الفقيه لما أشرنا إليه من تنزيل هذه المسائل.
فرع:
2578- المحرم ممنوع عن لبس القفازين، فإنه ملبوسٌ مقصود مُحيط بالعضو، وإنما تردد القول في المرأة.
ولو اتخذ الرجل لساعده أو لعضوٍ آخر شيئاً مَخيطاً، فقد تردد جواب شيخي فيه، وهو لعمري محتمل؛ فإن الكشف ليس واجباً في غير عضو الإحرام، وإنما القاعدة المعتبرة اجتناب زيٍّ مخصوصٍ، وذاك يختص بالملابس المعتادة، والقفاز ملبوس معتاد، في بعض الأحوال، فأما اتخاذ شيء على هيئة خريطةٍ وسترِ عُضوٍ به، فليس ستراً، على زيٍّ مخصوص، وليس ملبوساً مقصوداً.
والتردد في هذا يستند إلى ما أشرنا إليه من قول بعض الأصحاب في اختضاب اللحية.
والذي أرى القطعَ به أن ذلك التردد في خريطةٍ تُغلّف اللحيةُ بها، وأما اللف، فلا منع منه.
هذا نجاز القول في الملابس وفيما يراعى فيه اجتنابُ الستر كعضو الإحرام، وفيما يراعى فيه اجتناب سترٍ مخصوص.
فصل: يحوي ترتيب المذهب في تكرر المحظورات، على التواصل، والتقطع
2579- فنقول:
محظورات الحج تنقسم إلى استمتاعٍ، واستهلاكٍ، فأما الاستمتاع، فهو استعمالُ الطيب ولُبس المخيط، وتغطيةُ عضو الإحرام، ونحن نقضي وطرَنا، من القول في تكرر هذه الأشياء، ثم نذكر الاستهلاك، في هذا الغرض، ثم نمزج الاستهلاك بالاستمتاع.
فأما الاستمتاع، فإنه مختلف النوع أوّلاً، فالطيب مخالف اللبس، والستر، واللُّبس وستر عضو الإحرام نوعٌ واحدُ، وإن اختلف وقعهُما، كما مضى، لأن اللُّبس شملهما، فلتقع البدايةُ بما يتعلق بالستر المحظور، فنقول:
2580- إذا لبس الرجل قميصاً وسراويلَ وعمامةً في مكانٍ واحد، في أزمنةٍ متواصلةٍ، فلا يلزمه إلا فديةٌ واحدة؛ فإن ذلك يُعد في حكم الخُطة الواحدة، والزي الواحد يأخذه المرء، وقد يطول الزمان في محاولة مضاعفة القميص، واستعمالِ الخف، وتكويرِ العمامة، فلا نظر إليه مع التواصل، وهذا معتبر بالرضعة الواحدة؛ فإن لها حكم الاتحاد، وإن طالت.
وإن تعدد اللُّبس، وتعدد المكان. أو اتحد المكان، وتقطع الزمان، وطرأت فترات، ينقطع بأمثالها التواصلُ المألوف في اتخاذ الزي الواحد من اللابس، فلا يخلو: إما أن يتولّج في خللها تكفيرٌ، وإما ألا يتفقَ ذلك. فإن لم يتّفق، ففي تعدد الفدية قولان:
أحدهما: التعدد، وهو الأحرى على القياس، فإن كل لُبس ممّا فرضناه لو قدر على حياله، لأوجب الفديةَ.
وسبب القضاء بالاتحاد عند اتحاد المكان، وتواصل الزمان قضاءُ العرف بعدّ ذلك أمراً واحداً، فإذا زال هذا بالتقطع الزماني، أو التعدد المكاني، فالوجه ردُّ الأمر إلى قياس التعدد.
ومن أوجب كفارة واحدة قال: إنها تجب لله تعالى، ويفرّق في موجِبها بين الناسي والعامد، فيتجه الحكم بتطرّق المساهلة إليها، فلتنزل أعدادها من غير تخلل تكفيرٍ، منزلة تعدد الزنيات والسرقات، هذا والإحرامُ المعترض عليه واحد.
وبهذا ينفصل ما نحن فيه عن وقاعين في يومين من رمضان، فإن كل صوم عبادةٌ متميزة عن الصوم في اليوم الآخر، فرأينا القطع بتعدد الكفارة خلافاً لأبي حنيفة.
2581- ولو جرى تكفيرٌ، مع التقطع في الزمان، أو المكان، حيث نقطع القضاءَ بالتعدد في اللبس، إذا رددنا الأمر إلى العادة، فإذا انضم إلى ذلك تخلل التكفير، فلبس قميصاً، وكفر، ثم طال الزمان، أو تبدّل المكان، ولبس عمامةً، فإن لم يربط نية الكفارة، بما سيفعله في الاستقبال، فلا خلاف أن الكفارة تجب باللبس الثاني؛ فإن المعتبر الأقصى في القضاء بالتداخل الحدودُ، ومن زنى، فحدّ، ثم زنى مرة أخرى حدّ، فإذا تجدد الحدُّ، وهو عقوبةٌ محضة لله تعالى، فالتجدد في الكفارات-وهي قرباتٌ، ووضعها التعبد على أنها إرفاق- أولى.
فأما إذا لبس وكفّر، ونوى بما أخرجه من الكفارة أن يوقعه عما مضى، وعما سيكون من لُبسه في المستقبل، فهذا يبتني على أن تقديمَ الكفارة على المحظور في الإحرام هل يجوز؟ على قياس تقديم كفارة اليمين على الحِنْث فيها؟ وهذا فيه اختلافٌ سنذكره في كفارة اليمين.
فإن منعنا تقديم الكفارة فيما نحن فيه، فلا أثر لربط النية بما سيكون، ويتجدد وجوب الكفارة، بتجدد اللبس، بعد إخراج الكفارة.
وإن قلنا: يجوز إخراجُ الكفارة عما سيكون، فإذا نوى ربطها بالكائن، وما سيكون، ففي تجدد الكفارة قولان، لمكان التعدد، كما سبق.
ولو اتحد المكان في اللبس والزمان، ولكنه خلَّل في أثناء اللبس المتواصل تكفيراً، فهل يجب بما يقع بعد إخراج الكفارة كفارةٌ؟ فيه اختلافٌ للأصحاب، من جهة أن تخلل الموجب يؤثر في التعدد اعتباراً بالحد.
وكل ما ذكرناه فيه، إذا اتحد النوع، في الاستمتاع.
2582- فأما إذا اختلف النوع، فلبس وتطيب، وفُرض في ذلك اتحادُ المكان، وتواصل الزمان، ففي تعدد الكفارة وجهان:
أحدهما: التعدد؛ والسبب فيه تباين الفعلين، بجهة الاختلاف. وصَغْوُ الأئمة إلى أن التعدد بهذه الجهة أولى باقتضاء تعدد الكفارة من التعدد بجهة اختلاف المكان، وانقطاع الزمان. وهذا لعمري كذلك، وهو بيِّن للمتدبر.
فقد أشرنا في هذا القسم الأول إلى محل الوفاق في النفي والإثبات، وأوضحنا أنه إذا اتحد النوع، والمكان، وتواصل الزمان، ولم يتخلل التكفير، فالكفارة متحدةٌ وفاقاً.
وإذا تخلل التكفيرُ من غير فرض ربط النية بالاستقبال، وانضم إلى تخلله ما يوجب التعدد، من جهة الزمان، أو المكان، أو النوع، فهذا مقطوعٌ به في نفي التداخل، ولا قطع إلا في هاتين الصورتين.
ووجدنا لاختلاف المكان أثراً في التعديد، على اختلافٍ، وكذلك تقطُّعُ الزمان. واختلافُ المكان، إذا قيس بتقطع الزمان، اعتدل، واختلافُ النوع أوقعُ منهما، فلا يترتب في نظم المذهب تقطّع الزمان، مع اتحاد المكان، على اختلاف المكان مع تقارب الزمان، وكل صورةٍ جرى فيها معنى واحد مما يوجب تعدد الفعل، فهو في تأسيس المذهب على قولين.
فإن فرضت مسألة مشتملةٌ على معنيين، مما يوجب التعدد، ولم تنته إلى صورة القطع، فهي على قولين، مرتبين، على التي هي ذاتُ معنى واحد، وهكذا الترتيب في ازدياد المعاني إلى الإفضاء إلى طرف القطع.
2583- وألحق بعض أصحابنا وقوع الاستمتاع بعذرٍ بما يقتضي الاتحادَ على الاختلاف، حتى نرتب المعذور في صورة الخلاف على غير المعذور، ونجعل المعذور أولى باتحاد الكفارة، من غير المعذور.
وهذا لا أراه كذلك؛ فإن العذر يؤثر في جواز الإقدام، لا في نفي الكفارة، وإن لم يكن من القول بذلك بدّ، فلا شك أن الذين قالوا به أرادوا عذراً واحداً، يشمل أعداداً من اللُّبس، أو الطيب، فنجعل الشامل منها بمنزلة ما يوقعها على نعت الاتحاد. وهذا-مع ما ذكرناه- خيالٌ.
وقد نجز القول في تكرر الاستمتاع، مع اتحاد النوع، واختلافه.
2584- فأما القول في الاستهلاك، فهو ينقسم في غرض الفصل، إلى ما لا يتعلق ببدن المحرم، وإلى ما يتعلق ببدنه.
فأما ما لا يتعلق ببدنه كقتل الصيود، والجناية عليها، ولايتوقع تداخلٌ فيها، فإن الكفارات في الصيود، تحل محل قيم المتلفات، فعلى أي وجه فرضت، فالنظر إلى أقدار المتلفات.
فأما ما يتعلق ببدن المحرم، فكالحلق والقَلْم، فنقول: من حلق ثلاث شعرات، فقد كملت عليه الفدية، وإن استوعب الرأس بالحلق، لم يلتزم إلاّ فديةً واحدة، إذا اتحد المكان، وتواصل الزمان. وهذا متفق عليه.
ولو حلق غير شعر رأسه مع حلق شعر رأسه، على صورة التواصل، فالذي ذهب إليه الأئمة اتحادُ الكفارة.
وذهب أبو القاسم الأنماطي إلى أنه تجب كفارتان: إحداهما في مقابلة الرأس، والأخرى في مقابلة ما عداه من شعر البدن، وهذا متروكٌ عليه، ولا وجه له.
ولو حلق شعر رأسه في أمكنة أو أزمنة، ففي التداخل قولان مرتبان على القولين في تعدد اللبس باختلاف المكان، والكفارة أولى بالتعدد، في الحلق؛ لأنه استهلاك والقياس في قبيل الاستهلاك تعدُّد الكفارة.
ثم يجري في الحلق فرض اجتماع المعاني، واتحادها، والصور كلها على الخلاف إلا الصور التي استثنيناها فيما تقدم.
وإذا تعارضت مسائل الإتلاف، ومسائلُ الاستمتاع، ترتبت كل صورةٍ في الإتلاف على نظيرتها في الاستمتاع، كما نبهنا عليه.
وإذا اشتملت مسألة في الاستمتاع على معينين، واشتملت مسألة الإتلاف على واحدٍ، فقد يعتقد الفقيه اعتدالهما، والقول في ذلك قريب، بعد ظهور الغرض.
وقد انتهى الكلام في الاستهلاك، والاستمتاع، إذا فرض كل واحد منهما وحده.
2585- ومن صور القطع في قسم الاستهلاك، أن النوع إذا اختلف، تعددت الكفارة، وفاقاً، وذلك بأن يحلق، ويقْلِم، وبهذا يستبين أن اختلاف النوع في الاستمتاع مؤثرٌ، كما تقدم.
ومما يتصل بالاستهلاك أن من حلق ثلاث شعرات في أمكنةٍ أو أزمنة على صفةِ التفرق، فإن كنا نرى أن في كل شعراتٍ ثُلُثَ دم، فلا تُفيد هذه المسألة؛ فإن مفرّقها ومجموعها سواء في ذلك، تفريعاً على هذا الوجه.
وإن قلنا: يجب في الشعرة مدٌّ، وفي الشعرتين مدان، وفي الثلاث دم، فلو فرضنا أخذ ثلاث شعرات، على صفة التفرق، فهذا خارجٌ على الأصل الممهد.
فإن قلنا: من حلق رأسه ثلاث دفعات، تعددت الفدية، حملاً للأفعال على التجدد، والاستقلال؛ فإن-على قياس ذلك- كلَّ شعرة منقطعةٌ عن غيرها، ولا يضم بعضها، إلى البعض فيجب في كل شعرة مُدّ.
ومن قضى باتحاد الكفارة في حلق الرأس بدفعات، مَصيراً إلى أنها كالحلق الواحد، قال على قياس ذلك، أخذُ الشعرات مجموعٌ، ولو أخذ ثلاث شعرات، وجب فيها دم.
فهذا تمام القول في الاستمتاع، والاستهلاك.
2586- وإذا اجتمع استمتاع واستهلاك، قطعنا بتعدد الكفارة، لاختلاف الجنس والنوع.
واختلف أصحابنا في صورة واحدةٍ، وهي إذا اجتمع استمتاعٌ واستهلاكٌ بسبب واحد، مثل أن يصيب رأسَ المحرم شَجّةٌ، وتمس الحاجة إلى حلق الرأس من جوانبها، ووضع ضمادٍ عليها، فيه طيبٌ، فهذا إذا تم، حلقٌ وسترٌ واستعمالُ طيبٍ، ولكن السبب المقتضي لها واحد.
فالذي ذهب إليه الأكثرون تعدد الكفارة، للاختلاف.
وذهب بعض الأصحاب إلى الاتحاد في هذه الصورة.
وهذا يوضح ما نبهنا عليه، في تحقيق معنى العذر، في فصل الاستمتاع.
وأما الوطء، فقد اختلف القول في أنه استمتاعٌ، أو استهلاك، على ما سيأتي: فإن جعلناه استمتاعاً، فهو ملحقٌ في الترتيب، بالاستمتاعات. ولو جعلناه استهلاكاً، فهو ملحق بقسم الاستهلاكات المتعلقة بالبدن.
والذي يجب التفطن له، أن مَن حلق رأسه بثلاث دفعات، على تقطع، فالفقيه يتخيل ذلك مقصوداً واحداً مقطعاً، ولولا هذا، لما كان لذكر الخلاف في اتحاد الكفارة وجهٌ.
والوطء بعد الوطء بخلاف هذا، فكل وطء في حكم مقصودٍ تام، وهذا يوجب التعديد، ولكنه بالاستمتاع أشبه، فإذا قيس عدد الوطء بالحلق المتقطع، اعتدلت المرتبتان.
ولست أستريب في أن الحلق بعد الحلق، مع تحلل النيات، يعدد الكفارة.
وقد نجز الغرض في هذه الفصول.
فصل:
قال: "وما شُمَّ من نبات الأرض... إلى آخره".
2587- استعمال الطيب من محظورات الإحرام بالإجماع، والحاجّ أشعثُ أغبرُ تَفِلٌ، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والكلام في الفصل يتعلق بثلاثة أشياء: أحدها: فيما يكون طيباًً.
والثاني: في كيفية استعمال الطيب. والثالث: في العامد، والناسي، والجاهل.
2588- فأما القول فيما يكون طيباً، فالمعتبر فيه ما يكون المقصود الأظهرُ منه التطيب، فما كان كذلك، فهو طيبٌ، ولا نظر إلى الرائحة المستطابة.
وما يكون المقصود الأظهر منه الأكل تفكّهاً أو تداوياً، فليس طيباً في غرضنا، فالتفاح، والسفرجل والأُتْرُجّ، والنارَنج، ليست طيباًً، وكذلك القَرَنْفُل والدارصيني، ويستعملان دواء. وهذا هو المقصود الظاهر منهما، والوردُ طيبٌ.
واختلف نصُّ الشافعي في الضَّيْمران، وهو الريحان الفارسي. والظاهر أنه طِيبٌ؛ فإنه المقصود منه، ونصُّ الشافعي في الوجه الآخر لست أرى له وجهاً، إلا بناءَ الشافعي الأمرَ على الظن في قُطرٍ لم يُعهد فيه هذا النوعُ، وفي نصه ما يدل عليه؛ فإنه قال: المقصود من الضَّيْمَران تزيينُ المجالسِ، والدَّسَاتجُ قد تُحَفُّ بالخُضَر تزييناً، والوردُ-في وسطها- الطِّيبُ.
وهذا ظنٌّ منه، فيما لم يَعْهدْه، والمَيْلُ في مثله لا يخرم قاعدة المذهب؛ لأن الشافعي لو استبان من الضيمران، ما عرفناه، لما ردّدَ قولَه.
وهذا عندي بمثابة نصٍّ له يخالف نصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان بلغه الخبرُ، فلا شك أنه لو بلغه، لقبله، وقد قال في مواضعَ: "إذا صح عندكم خبرٌ يخالف مذهبي، فاتبعوه، واعلموا أنه مذهبي".
وتردد نصُّه في البَنَفْسَج.
وذكر العراقيون فيه وفي دهن البَنَفْسَج ثلاثَ طرق: إحداها- طردُ القولين فيهما، والأخرى- القطعُ بأنهما طيب، وهؤلاء حملوا نص الشافعيِّ على البَنَفْسَج المُرَبَّى الذي سقطت رائحته، على ما سنفصل القول في الطيب الذي تسقط رائحته، ويبقى لونُه. والطريقة الثالثة- الفرقُ بين البَنَفْسَج ودهنه، والبَنَفْسَج طيبٌ، ودهنه ليس بطيب؛ فإن البَنَفْسَج يستعمل طيباً، ودهنُه لا يستعمل طيباًً، والوجه عندنا القطع بأن
البَنَفْسَجَ، ودُهنَه طيباًن؛ فإن التفت الفقيه إلى ظهور غرض التداوي بالبَنَفْسَجِ، ودُهنِه، دخل عليه الورد.
وكان شيخي يحكي تردُّداً في دهن البَنَفْسَجِ، والقطعَ بأن دهنَ الورد طيبٌ.
ولست أرى لهذا وجهاً؛ فلا فرق بين الدهنين؛ فإن الغالبَ أنهما لا يستعملان لغرض التطيب، ولكن الظاهر وجوب الفدية؛ لاتصال عين الطيب بهما، كما سأمهّد ذلك في الفصل الثاني عند ذكر أكل المحرم الخبيصَ المُزَعْفَر.
2589- وذكر العراقيون أن الدهن الذي فيه الكلام هو الذي يُغلى فيه جِرْمُ البَنَفْسَجِ، والوردِ. فأما إذا ذُرّ البَنَفْسَجُ على السمسم، ثم اعتُصر السمسم، فذلك الدهن ليس طيباً وفاقاً.
هكذا قالوه.
وكان الشيخ أبو محمد يقول: هو الدهن الذي فيه الكلام، وهو أشرف من الدهن الذي يُغلى فيه البَنَفْسَج.
وهذا يتجه من العلم بأن السمسم يتشرب من مائية البنفسج، وهي الطِّيبَة، فيرجع الأمر إلى امتزاج ما طاب من البنفسج، بالسمسم، وليس اكتسابُ السمسم للطيب، من جهة المجاورةِ المحضة.
والزعفرانُ طيبٌ، وإن تُخيّل تجردُ القصد إليه في التداوي، والصبغ.
وكذلك القول في الورس، وهو من أشهر الطيب، في بلاد اليمن.
2590- وقد لاح لي في أثناء المسائل، أن القصدَ في الطيب إذا ظهر، كفى، وإن عارضه قصد آخرُ صحيح، ولذلك ينتظم إلحاق الزعفران بالطيب.
وفي النفس من الأُترج والنارَنج شيء؛ فإنَّ قصدَ الأكل، والتداوي ليس بأغلبَ من قصد التطيب، ولكن ما وجدتُه في الطرق إلحاقُهما بالفواكه، وقد يتجه معنى تزيين المجالس بهما. والعلم عند الله.
واتفق الأئمة على أن الشِّيحَ، والقَيْصُومَ، والأزهارَ الطيبة، في البراري، التي لا تُستنبت، ليس طيباً، وإن كان يُعتاد شمُّها، ولا يظهر فيها مقصودٌ آخر.
والقول في ذلك ينقسم، فيغلب في أكثرها معنى التداوي، حتى يلتحقَ بالقَرَنْفُل، والسنبلِ وإن لم يظهر، فيضعف تصوير الطيب به، ولو كان ذلك مقصوداً فيه، لاتخذ قصداً اتخاذَ الورد وغيرِه مما يستنبت.
ونصَّ الشافعيُّ على أن دُهن الْبانِ، والْبانَ نفسَه ليسا بطيبين، والأمر على ما قال، فإن قيل: ذُهن البان من أركان الغوالي. قلنا: إنما يراد منه سيلان الغالية، ثم تُخيِّر دُهن لا ريح له أصلاً، وهو أبعد الأدهان عن التغير.
فهذا قولينا فيما يكون طيباً.
2591- وقد ذكر بعض المصنفين أن من أصحابنا من يعتبر عادات أهل كل ناحية، فيما يُتَّخذُ طيباً، وهذا فاسدٌ يشوش القاعدة.
ولا خلاف أن ما يُطعم في قطر ملتحق بالمطعومات في الربا.
2592- وأما الكلام في جهةِ استعمال الطيب، فإنا نسوق فيه ترتيباً جامعاً، فنقول: إذا عَبِقَ عينُ الطيب ببدن المحرم، أو ثوبه، فهذا استعمال طيبٍ، سواء كان معتاداً أو لم يكن معتاداً، فلو وطيء المحرم طيباً رطباً، بعقبه، على عمدٍ، استوجب الفدية، وعليه يُخَرّج إيجاب الفدية على المحرم، إذا أكل خبيصاً مزعفراً؛ فإن عينَ الطيب يعبق، بيده. وتعليل ذلك أن عين الطيب إذا اتصلت، وعبقت على أية جهةٍ فُرضت، فيجب على المحرم إزالتُها، كما يجب إزالة النجاسة، على من يحاول الصلاة، وكل اتصال يجب إزالته فاعتماده يوجب الفدية.
فأما إذا انتهت رائحة الطيب إلى المحرم، فيتعين في ذلك اعتبار غلبة الاعتياد، فإذا تبخّر المحرم واحتوى بثيابه على المجمرة، فهذا تطيب معتادٌ، موجب للفدية، ولو جلس عند الكعبة وهي تُجَمّر؛ فناله من الريح الطيب، ما ينال معتمد التبخير، فلا فدية؛ فإنه لا يسمى متطيباً، وكذلك لو جلس عند عطار، فعَبِقت به الروائح.
وألحق الأئمة بما ذكرناه أن يُجَمَّرَ بيت فيه قوم، فهم من وجه مقصودون بالعطر، ولكن إذا لم يحتوِ واحد على المجمرة، فلا يُعد متطيباً، ويعد هذا تطييبَ البيت؛ حتى يستروح إليه ساكنوه.
والسر الجامع في ذلك: أن المحرم فيما نظن لم يُمنع من الطيب اضطراراً له إلى احتمال التَّفَل والأذى، ولذلك لم يمنع من الاغتسال وإزالة الوسخ، وإنما المقصود من منعه من الطيب- قطعُ اعتياد التطيب، المُلهي عما يعنيه، ولا يبعد حمل المنع من الاصطياد على ذلك، فإذا لم نجد اعتمادَ التطيب على اعتيادٍ في ذلك، لم يلزمه الفدية.
2593- ولو مس المحرم طيباً يابساً، نُظر: فإن لم تعبَق الرائحة ببدنه، وثوبه، لم تلزمه الفدية، فإن لم تتصل العين به، ولا الرائحةُ، فلا يعد ما جاء به اعتماد تطيب.
ولو عبقت الرائحة به بسبب مسه الطيبَ اليابس، ففي وجوب الفدية قولان:
أحدهما: لا تجب؛ لأن ذلك ليس استعمال طيب على الاعتياد.
والثاني: تجب؛ فإن تعلق الريح، مع المسيس، كتعلق العين؛ فإن الطيب يُعنَى لريحه.
2594- فانتظم مما ذكرناه ثلاثةُ أقسام: أحدها: تعلق العين، وهو على كل حال يقتضي الفدية، ولا نظر إلى العادة.
والثاني: اتصالُ الريح، من غير اتصالٍ بعين الطيب، فهذا يشترط فيه غلبةُ الاعتياد، كما تفصّل. والثالث: الاتصال بعين الطيب، والعابقُ ريحه لا عينُه، فإن انضم إليه اعتيادٌ غالبٌ، فلا شك أنه من موجبات الفدية؛ فإنه فوق التسبب إلى الريح المحضة.
وإن لم يثبت اعتيادٌ، وعبقت الرائحة، فعلى قولين. وإن لم تكن رائحةٌ، فلا بأس. ولو احتفَّ بالمحرم أجرَام الطيب، وكان قصدَ جمعَها استرواحاً إلى روائحها، ولا مسيس، فلا فدية، وليس كالتبخر؛ فإنه يكاد أن يكون اتصالاً بعين الطيب، فإن بخار البخور عينُه.
فليفهم الفاهم هذه المراتب.
فرع:
2595- قال الأصحاب: إذا شدَّ المحرم مسكاً، على طرف ثوبه، فهذا مسُّ طيب بالثوب، يعبَق منه الريح، وهو معتاد، فتجب الفدية، لاجتماع هذه الأسباب.
ولو شد عوداً، فهذا غيرُ معتاد، فإن كان يعبَق ريحه بالثوب، فهذا على القولين؛ إذ لا اعتياد، والريح عابقةٌ.
ولو حمل المحرم قارورة مسك مصمّمَ الرأس، فلا فدية. ولو حمل فأرةَ مسك، لم تشق، ففيه تردُّد للأصحاب: منهم من قال: هو كحمل القارورة، فإن جِرْم الفأرة ليس بطيب، وإنما الطيب المسك. وقال قائلون: حملُه استعمال طيب.
وفي المسألة احتمال، والأغلب أن لا فدية، إذا لم يكن في الفأرة شق، وقطع الصيدلاني بوجوب الفدية.
فرع:
2596- إذا كان على الثوب عينُ طيبٍ، قد زالت رائحته، فإن كانت بحيث لو رشت بالماء، عادت الرائحة، فهي طيبٌ، ولا نظر إلى ركود الريح في الحال.
وإن كانت الريح لا تعود، فقد ذكر الأئمة وجهين، في أن بقاء لون الطيب مع سقوط الرائحة والطعم هل يُبقي حكمَ الطيب؟ وهذا تلقَّوْه من تردّدِ النص في شيء يدل على اعتبار اللون.
والذي أراه القطعُ بأنه غير معتبر، فإن صح للشافعي في ذلك نصّ، فلعله استدل ببقاء اللون، على كمون الرائحة، وتوقّع ثورانها، إذا رش بالماء. والطعم المجرد لم يعتبره أحد.
وقال العراقيون: "إذا بقي الطعم، واللون، نقطع بكونه طيباً، وإن سقطت الرائحةُ". وليس الأمر كذلك عندنا. والطعم مع اللون، كاللون المجرد.
2597- وتمام البيان في ذلك: أن المقدار القليل من الطيب، لو غمره مقدارٌ كثير، مما ليس طيباً، فاستعمل المحرم منه، ما يستيقن أنه يشتمل على جِرم الطيب، فللأصحاب في هذا تردُّدٌ: فاعتبر بعضهم استيقان اتصال الطيب، وهو محقَّقٌ، والرائحةُ غير زائلةٍ، ولكنها مغمورة، والمغمورُ كالكائن الظاهر؛ ولهذا قال الأصحاب: إذا تغيرت رائحة الماء الكثير بالنجاسة، وحكم بنجاسته لذلك، فلو طُرح في الماء كافور، فغمر رائحة النجاسة، فالماءُ محكوم بنجاسته.
وقال بعضهم: لا يثبت حكم التطيب؛ إذ لا رائحة.
والمسألة فيه إذا كانت الرائحة لا تثور بعلاجٍ، لقوّة الغَمر، ثم إن هؤلاء قالوا: لو انغمرت الرائحة وبقي الطعم أو اللون، فالأمر محتملٌ.
الظاهرُ أن استعماله تطيب، ولهذا قال الشافعي: إن كان الخبيص بحيث يصبغ اللسانَ، تعلّق وجوبُ الفدية بتعاطيه، وإن زالت رائحة الزعفران.
وقال بعض الأصحاب: الرائحة هي المعنية، وحقٌّ على الناظر، أن يميز بين ما يجري بسبب الانغمار، وبين أن يمّحق ريح الطيب مع بقاء جِرمه.
ولم أر أحداً من الأصحاب يفصّل بين القليل من الطيب والكثير، فَصْلَهم في النجاسات، ولعمري لا فَصْلَ؛ فإن المعتمدَ في النجاسات تعذُّر الاحتراز، وتيسره، ولا جريان له في الطيب. وليت شعري ماذا نقول فيما لا يدركه الطرف من الطيب؟ والعلم عند الله تعالى فيه.
2598- فأما المقصود الثالث: وهو الكلام في العمد، والنسيان: فإذا تطيب المحرم ناسياً إحرامَه، لم يلتزم الفديةَ عندنا، قياساً على أكل الصائم ناسياً، وكلام المصلّي كذلك، خلافاً لأبي حنيفة.
وهذا يطرد في كل ما هو استمتاعٌ من المحظورات.
فأما قتل الصيد، والحلق، والقَلْم، فظاهر المذهب أن صَدَرَ هذه الأشياء من الناسي في إيجاب الفدية كصدَرِها من العامد؛ نظراً إلى الإتلافات. ونصَّ الشافعيُّ في المغمى عليه إذا حلق شعره أنه لا تتعلق الفدية بما جرى في حالة الإغماء، وإن كان الحلق ملتحقاً بالإتلافات، فأثبت أصحابنا قولاً في المسألة، في الاستهلاكات.
وحكى شيخي أبو محمد قولين في الصيد أيضاًً.
وخرج من الترتيب أن الاستمتاع المحض يفصّل بين الناسي والعامد، وفي الاستهلاكات قولان: أظهرهما- أن لا فرقَ، وكنت أودّ لو فصل فاصل بين قتل الصيد، وبين الحلق، والقَلْم، فإنا وإن عددنا الحلق، والقَلْم، من الإتلافات، ففرض الاستمتاع فيهما غالب. وأمَّا موجَبُ الصيد قيمةُ متلَف، والذي يؤلف بينهما، أن تلك القيمة شرعية، وإلا فالصيد المباح لا قيمةَ له.
فهذا قولينا في الناسي.
2599- فأما الجاهل، فأهم ما فيه تصويره، فمن جهل كونَ استعمال الطيب محرماً في الشرع، فهو كالناسي في حكمه، وهذا قولينا في الصوم، والصلاة. ومن علم تحريم الاستعمال، وجهل وجوبَ الفدية، أعلمناه أن الفديةَ تجب عليه، ومن علم تحريمَ الطيب، وجهل كون الشيء طيباً، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من لم يوجب الفدية، ومنهم من أوجبها. ولو علم أن الممسوس طيبٌ، ولكنه حسبه يابساً، لا تعبَق منه رائحة، فإذا هو رطب، فالأصح وجوب الفدية.
فرع:
2600- إذا اتصلت عينُ الطيب، ببدن المحرم، على وجهٍ لا يلزمه بذلك الاتصال فدية، فيتعين عليه السعي في إزالتها، وقد لا يتأتى له السعي دون ممارسة الطيب، فليفعل ذلك؛ فإنه في حكم المزيل التارك، وليقتصر على قدر الحاجة، في الممارسة.
ولو كان محدثاً، ومعه من الماء، ما يكفيه لوضوئه، وعليه طيبٌ، يتعين عليه إزالته، ولو استعمل الماء فيه، لم يبق ما يتوضأ به، فإن أمكنه رفْعُ الطيب من غير غَسْل، فليفعل، وليتوضأ. فإن لم يتمكن من إزالة الطيب، إلا بجهة الغَسل، فغسلُ الطيب مقدم على الوضوء، كما نقدم غسل النجاسة عليه؛ لأن الوضوء ذو بدل، وإزالة الطيب لا بدل لها، وكذلك إزالة النجاسة، لا بدل لها.
وإن كان يتأتى منه الوضوء، وجَمْعُ الغُسالة في موضعٍ، فإنه يستعملها في إزالة الطيب، فقد ذكر العراقيون أن هذا هو الوجه. وللفقيه فضلُ نظر في تأخير إزالة الطيب؛ فإن ابتدار إزالته حتمٌ، ولكن قد نظن أن هذا التأخيرَ محتملٌ لتحصيل رفع الحدث.
فرع:
2601- إذا طيب الرجل فِراشه، وجلس عليه، فلقيه بدنُه، أو ثوبه، فهذا من استعمال الطيب، وهو معتاد للمترفهين في الغِطاء، والوِطاء. وإن فرش فوقَ الفراش المطيّب ثوباً صفيقاً، يحول بينه وبين الريح، جاز، ولا يكون مستعملاً للطيب. ولو كان الثوب رقيقاً لا يحجز رائحة الطيب، قال العراقيون: لا فدية، ويكرَه له ذلك. وما ذكروه ظاهر، وفي وجوب الفدية احتمال بعيد.
فصل:
2602- المحرم ممنوعٌ من ترجيل شعر الرأس واللحية بالدُّهن؛ فإن الترجيل يضادّ الشّعَث، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعث والتَّفَل في نعت المحرم، في قَرَن؛ إذ قال: "الحاج أشعثُ أغبر تفِل " والتَفَل ضد العطر.
فإن قيل: ذكر الأغبرَ، ولا حرج على المحرم في إزالة الغبار، والأوضار. قلنا:
الغبر، والشعث، من نعت الشعر، والماء لا يزيل-فيما قيل- شعث الشعر وغبرَه، بل قد يزيده في ذلك.
واستعمال الدُّهن في غير شعر اللحية والرأس لا بأس به، إلا أن يكون مطيّباً، فيدخل استعماله في استعمال الطيب إذاً.
وذكر العراقيون: أنه لا يمتنع غسل شعر الرأس واللحية، بالسِّدْر والخِطميّ، وكل غاسول يستعمل في الشعر، وما ذكروه قياساً.
والترجيل المحرَّم الموجب للفدية يختص بالدهن، ولعلّ تزيين الشعر، وتنميتَه بالدهن، في الاعتقاد، واستعمالُ ما عداه من الغاسولات- طردٌ للأوساخ، فكان كاستعمال ما يطرد الصّنان، والأنتان، والترجيلُ كاستعمال الطيب.
ولو دهن رأسه وهو أقرع لا يتوقع له نبات شعر، فلا بأس. فأما إذا كان محلوق الرأس، فاستعمل الدّهن، ففي المسألة وجهان: أظهرهما في القياس- أنه لا يلزمه الفدية؛ فإنه لم يستعمل الدهن في شعر.
والثاني: يلزمه الفدية؛ فإنه تنمية للشعور، ومنابتها.
فصل:
قال: "وإن حلق شعره، فعليه فديةٌ... الفصل إلى آخره".
2603- حَلْقُ الشعر قبل أوان التحلل من محظورات النسك، والفديةُ الكاملة.
تتعلق بالأخذ من ثلاث شعرات؛ فإن لفظ الشارع ورد بحلق الشعر، وهو جمع، والواحد منه شعرة. ثم لو زاد عليها، فاستوعب شعرَ الرأس، أو شعرَ البدن، فقد مضى التفصيل فيه.
وفي بعض التصانيف: في الأخذ من ثلاثة مواضعَ مختلفةٍ، على البدن= وجهان، مع اتحاد المكان، وتواصل الزمان. وهذا بعيد. والوجه القطع بأن الشعرات المأخوذة من عضو واحد و من أعضاءَ على وتيرة واحدة، إذا لم يتعدد المكان، ولم يتقطع الزمان.
وإذا أخذ شعرةً واحدةً، ففي الواجب ثلاثةُ أقوال مشهورة: أقيسها- أن الواجب فيها ثُلثُ الدم، وفي الشعرتين الثلثان، وفي الثلاث، فصاعداً دمٌ كاملٌ.
والقول الثاني- أنه يتعلق بالشعرة مدٌّ. وبالشعرتين مدان، وهذا معتضدٌ بآثار السلف، وهو مرجوعٌ إليه، في مواضعَ من الشريعة؛ فإن اليوم الواحد من صوم رمضان مقابَلٌ بمُد، كما تقدم.
والقول الثالث: أنه يجب في الشعرة درهمٌ، وفي الشعرتين درهمان. وحكاه الشافعي عن عطاء مستأنساً بمذهبه. ولست أرى له وجهاً، إلا تحسينَ الاعتقاد في عطاء، وأنه لا يقول مثلَ ذلك إلاّ عن ثَبَت، وهو أجل علماء التابعين.
وذكر صاحب التقريب في كتابه قولاً غريباً: إنه يجب في الشعرة دمٌ كامل، وهذا وإن كان ينقدح توجيهه، فلست أعدّه من المذهب.
والقول في الأظفار كالقول في الشعور.
وما ذكرناه من الأقوال قد يجري في الحصاة من الجمرات، والليلةِ تُترك من المبيت، ولكن يقع في تلك الفنون ضروبٌ من الكلام، ستأتي في مواضعها.
والحلق بمثابة القص. والتقصيرُ، والنتفُ، بمثابتهما. وكذلك الإحراق.
فرع:
2604- إذا نبتت شعرةٌ أو شعراتٌ من داخل الجَفن، وظهر التأذي بها، أو انكسر ظُفرٌ، وكان يتضرر المحرم به، فالذي ذكره الأئمة، أنه لا ضمان على المحرم بأخذها؛ فإنها مؤذيةٌ في عينها، فكانت كالصيد يصول على المحرم.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص طريقين:
أحدهما: ما ذكرناه، والأخرى: تخريج الضمان على وجهين مبنيين على أن الجراد إذا عمّ المسالك، ولم يجد المحرمون خلاصاً من وطئها بالأقدام، فهل يضمنون ما يَتلف منها؟ في المسألة قولان. و هذا على قربه في المأخذ، بعيدٌ في الحكاية.
فإن قيل: إذا تأذى المحرم بشعر رأسه، وكثرة الهوام، فالتأذي متعلّق بالشعر، ويجب الضمان، وقد روي أن كعبَ بنَ عُجرة، كان يطبخ شيئاً، والهوائمُّ تنتثر من رأسه، فمرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال، أتؤذيك هوامُّ رأسك؟ فقال: نعم، فقال: "فاحلق وانسُك بدم، أو صم ثلاثةَ أيام، أو تصدق بفَرَقٍ من الطعام، على ستة مساكين".
قلنا: التأذي بالوسخ، لا بالشعر، بخلاف ما نحن فيه.
فليفهم الناظر ثلاثَ مراتب، فيما نحاول إحداها- أن يصول الصيد، فيقتله المحرم، دفعاً، فلا ضمان؛ فإن السبب المسلِّط على القتل صدَر من الصيد.
المرتبة الثانية- في ركوب الجراد قوارعَ الطريق، فلا محيص من إهلاكها، وليس ركوبُها الطريق كصيال الصيد؛ فاختلف القول في ذلك. وفي التحاق الشعرة النابتة من داخل الجفن، والظُّفرة المنكسرة ما قدمناه.
والمرتبة الثالثة- في التأذي بالوسخ، والهوام، والشعرُ من أسبابها، فالفدية تجب بأخذ الشعر، بدليل الخبر، والإجماع.
ولا يخفى انفصال هذه المرتبة عما تقدم.
فصل من ذلك
2605- كفارةُ الحلق، والقَلْم مخيّرةٌ مقدّرةٌ، فيجب على من التزم الفديةَ الكاملةَ دمُ شاةٍ، أو صومُ ثلاثةِ أيام، أو التصدق بفَرَق من طعام، على ستةِ من المساكين، والفرَقُ ثلاثة آصع، فيصرف إلى كل مسكين نصف صاع، وهذا عديم النظير في تعديل الكفارات، ومقابلة الصيام بالإطعام؛ فإن اليوم الواحد مقابَلٌ بمد، والمتبع في التقديرات التوقيفُ.
ولما ثبتت هذه الخصال على التخيير، كانت كلُّ خَصْلة مستقلةٍ بنفسها، لا تقدّر مقابلتها بالأخرى، كخلال كفارة اليمين.
ثم صوم الثلاثة الأيام في كفارة اليمين لا يناسب الإطعام؛ من حيث إنها ليست مختصة بمناسبة الطعام.
ثم الكفارة على التخيير عندنا، سواء كان الحالق معذوراً، في حلقه، أو عاصياً.
وأبو حنيفة يرتب الكفارة على العاصي بالحلق، فيقدم الدمَ، ويرتب عليه الإطعام، ويؤخر الصيام. والغرض من هذا أن الصوم لا يناسب الطعام في مذهبٍ من المذاهب.
فصل:
2606- المحرم إذا حلق شعر الحلال، فلا بأس عليه، وأَخْذُه من شعر الحلال، بمثابة أخذه من شعر البهائم.
وأبو حنيفة قدّر شعر الحلال كالصيد، وحكم بأنه يَحْرمُ على المحرم تعاطي جنسَ الشعر، ثم لم يطرد هذا المذهبَ الفاسدَ، فلم يوجب فديةً كاملة، واكتفى بإيجاب صدقةٍ.
2607- فأما الحلال إذا حلق شعر الحرام، فإن كان بأمرٍ منه، فالضمان وجوباً، وقراراً على المحرم، المحلوقِ، ولا شك أن الحلال يعصي بالإقدام على حلقه، ولا يقصُر فعله عن الإعانة على معصية.
ولو حلق الحلال رأسَ المحرم، والمحرم مكرَهٌ، أو نائمٌ، أو مجنون، فالفدية تجب.
وقد اضطربت مسالك الأئمة، ونحن نذكر ترتيباً يجمعها، فنقول: في المسألة قولان:
أحدهما: أنها تجب على الحلال، ولا يلقى الوجوبُ المحرِمَ. والقول الثاني- أن الوجوب يلقى المحرمَ، وعلى الحلال التحمّلُ عنه.
ولم تختلف الأئمة في إيجاب الفدية، وإن لم يكن الحالق محرماً. وأقربُ مسلكٍ في هذا تشبيهُ شعر المحرم في حق الحلال بصيدِ الحرم، وشجره.
ثم إن قلنا: الوجوب لا يلقى المحرم، وإنما ابتداؤه، وقراره، على المُحل، فقد وجدتُ الطرق متفقةً على هذا القول في أن المحرمَ يطالِب المحلَّ بإخراج الفدية، وهذا مشكلٌ في المعنى، والتعويلُ على النقل.
وإن قلنا: الوجوب على الحلال، فيصوم أو يطعم، أو ينسك بالدم، والخِيَرةُ إليه.
وإن قلنا: يتحمل، فلا يتصور أن يصوم، فإن الصوم لا يدخله التحمل.
ثم في ذلك وقفةٌ عندي؛ فإنه لا يمكننا أن نلزم المحرمَ أن يصوم، والكفارة على التخيير، ويبعد أن يعيّن الدمُ، والطعام، في حق الحلال. والوجه أن نقول: إن صام المحرم برئ الحلال عن العهدة، وإن أطعم، رجع به على الحلال.
وما ذكرناه من الملاقاة، والتحمل في ذلك، ليس على قياس ما ذكرناه في كفارة الوقاع في رمضان؛ فإن ذلك تقديرٌ محض، ولا تراجع، والأمر هاهنا بخلاف ذلك؛ فإن الحالق الحلال ليس خائضاً في إحرام.
2608- ولو حلق الحلال شعر الحرام، وهو ساكتٌ، لا ينهى، ولا يأمر، مع القدرة، ففي المسألة وجهان- أحدهما- أن التفصيل فيه كالتفصيل في الآذن في الحلاق. والوجه الثاني- أن هذه الصورة ملحقةٌ بصورة المكرَه، والنائم.
فرع:
2609- لو قطع المحرم من نفسه عضواً عليه شعر، فلا يلتزم الفدية وفاقاً؛ لأنه لم يتعرض للشعر مقصوداً، وكذلك لو قشط جلدة الرأس، وإن قربت من الشعر، فالجواب كما ذكرناه.
فرع:
2610- إذا امتشط المحرم، فسقطت منه شعرات، فإن علم أنه ناتِفُها، فدَى، وإن علم أنها كانت انتتفت، وانسلّت، فلا ضمان، وإن أشكل عليه الأمر، فقد ذكر شيخي قولين في المسألة:
أحدهما: وهو القياس، أنه لا ضمان؛ فإنه لم يستيقن موجَب الفدية.
والثاني: يلزمه الفدية، ويضاف الانتتاف إلى الفعل الذي صدر منه، وهو الامتشاط؛ فإن من ضرب بطن امرأة فَأَجْهَضَتْ جنيناً، وجب الضمان، على الجاني، وإن كنا نجوز كون الاجهاض من سبب آخر.
فرع:
2611- كان شيخي يقول: الأولى للمحرم ألا يفلي رأسه، ولا ينحِّي هوامَّها استدامةً للشعث. وهذا لم يذكره غيرُه، ولكنه اعتضد بنصّ الشافعي، وذلك أنه قال: "لو نحاها، تصدّق بشيء"، ثم قال: "ولا أدري من أين قلتُ ما قلتُ".
وهذا محسوب على الشافعي في مضاهاة استحسان أبي حنيفة.
وحكى شيخي وجهين في أن التصدق هل يجب؟ ولا يُظن بالشافعي إيجاب الصدقة، وإنما الذي ذكره استحبابٌ، على بعدٍ، مع اعترافه بأنه لا أصل له.
ولست أرى ذلك متهيئاً أيضاًً، فليس في النص منعٌ من ذلك.
فرع:
2612- قال شيخي: اختلف نصّ الشافعي في أنه هل يكره للمحرم الاغتسال؟ فالذي نص عليه في الجديد أنه لا يكره، لما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعائشة: "اغتسلي، وامتشطي، وافعلي ما يفعل الحاج، غيرَ أن لا تطوفي بالبيت " وروي أن ابن عباس والمِشوَرَ بنَ مَخْرَمة، اختلفا في جواز الاغتسال للمحرم، فبعثا إلى أبي أيوبٍ الأنصاري، رضي الله عنهم فوجده الرسول وهو يغتسل محرماً، فأدّى الرسالة، فطأطأ أبو أيوب الثوب الذي هو يتستر به، ثم قال الذي يصب الماء: صبّه، فصبه، فقال: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يغتسل، وهو محرم " ودخل ابنُ عباسٍ حمامَ الجحفة، وقال: "ما يعبأ الله بأوساخكم شيئاً".
وقال: نص في القديم أن ذلك يُكره إلا عند حاجةٍ ماسة.
2613- ثم قال الشافعي: "ولا بأس بالكحل، ما لم يكن فيه طيبٌ". والأمر على ما ذكر، فلا مانع منه.
2614- وذكرَ امتناعَ النكاح، والإنكاح على المحرم، وسيأتي ذلك في كتاب النكاح.
2615- ثم قال: "ويلبس المحرم المِنْطقةَ والهِمْيانَ"، والأمر على ما قال، فليست المنطقةُ ملبوساً مخيطاً، ولا ملتحقاً بالملابس المخيطة.